اهتمَّ المفسرون بذكر أسباب النزول، فجعلوا معرفتها من الضروريات لمن يريد فهم القرآن والوقوف على أسراره، وأكّد الأئمة على هذا الاهتمام، فجعله الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق(ع) من الأمور التي لو لم يعرفها المتصدي لمعرفة القرآن لم يكن عالماً بالقرآن، فقال(ع):
اعلموا رحمكم اللّه أنه من لم يعرف من كتاب اللّه: الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمحكم والمتشابه، والرخص من العزائم، والمكي من المدني، وأسباب التنزيل...، فليس بعالم القرآن، ولا هو من أهله(1).
ومن هنا نعرف سر عناية الإمام أمير المؤمنين عليّ(ع) بأمر نزول القرآن ومعرفة أسبابه ومواقعه.
إنَّ أهمية أسباب النزول ومعرفتها تكون واضحة، حيث تُعدّ من الشروط الأساسية لمن يريد التعرف على القرآن.
وقد أفصح عن ذلك الأعلام والمؤلفون:
قال الواحدي: إذ هي (يعني الأسباب) أُولى ما يجب الوقوف عليها، فأولى أن تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها(2).
وقال السيد الفاني: وأمّا وجه الحاجة إلى شأن نزول الآيات، فلأنّ الخطأ في ذلك يفضي إلى اتهام البريء وتبرئة الخائن، كما ترى أن بعض الكتاب القاصرين عن درك الحقائق، يذكرون أن شأن نزول آية تحريم الخمر إنما هو اجتماع عليّ(ع) مع جماعة في مجلس شرب الخمر، مع أن التاريخ يشهد بكذب ذلك ونرى بعضهم يقول: إنَّ قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه) إنّما نزلت في شأن ابن ملجم(3).
وقال الدكتور شوّاخ: نزل القرآن منجماً على النبي(ص) حسب مقتضيات الأمور والحوادث، وهذا يعني أن فهم كثير من الآيات القرآنية متوقف على معرفة أسباب النزول، وهي لا تخرج عن كونها مجرد قرائن حول النص، وقد حرم العلماء المحققون الإقدام على تفسير كتاب اللّه لمن جهل أسباب النزول.
ولذا كان الإقدام على تفسير كتاب اللّه تعالى محرّماً على أُولئك الذين يجهلون أسباب النزول ويحاولون معرفة معنى الآية، أو الآيات دون الوقوف على أسباب نزولها وقصّتها(4).
وبلغ اهتمام علماء القرآن بأسباب النزول إلى حد عده من أهم أنواع علوم القرآن.
فجعله برهان الدين الزركشي أوّل الأنواع في كتابه القيّم «البرهان في علوم القرآن».
وأفرد له السيوطي «النوع التاسع» من كتابه القيّم «الإتقان في علوم القرآن» بعنوان «معرفة أسباب النزول».
وسنأتي في الفقرة الأخيرة من هذا البحث على ذكر المصادر العامة والخاصة لهذا الموضوع.
وبالرغم من الأهمية البالغة لأسباب النزول، فقد عارض بعض هذا الاهتمام، مستنداً إلى أُمور من الضروري عرضها ثم تقييمها:
الأمر الأول: أنّه لا أثر لهذا العلم في التفسير:
قال السيوطي: زعم زاعم أنه لا طائل تحت هذا الفن (أي فنّ أسباب النزول) لجريانه مجرى التاريخ(5).
ومع مخالفة هذا الادّعاء لما ذكره الأئمة والعلماء كما عرفنا تصريحهم بأن معرفة أسباب النزول مما يلزم للمفسّر حيث لا يمكن الوقوف على التفسير بدونه، بل يحرم كما قيل.
فقد ردّ السيوطي على هذا الزعم بقوله: وقد أخطأ في ذلك، بل له فوائد:
منها: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.
ومنها: تخصيص الحكم به عند من يرى أنّ العبرة بخصوص السبب.
ومنها: أنَّ اللفظ قد يكون عامّاً، ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته، فإنَّ دخول صورة السبب قطعيّ.
ومنها: دفع توهّم الحصر(6).
الأمر الثاني: أنَّ المورد لا يخصص.
واعترض أيضاً: بأنَّ ما يستفاد من أسباب النزول هو تعيين موارد أحكام الآيات وأسبابها الخاصة، ومن المعلوم أنَّ ذلك لا يمكن أن يحدد مداليل الآيات ولا يخصّص عموم الأحكام، وقد عنون علماء أُصول الفقه لهذا البحث بعنوان: «إنَّ المورد لا يخصّص الحكم».
قال الأُصولي المقدسي: إذا ورد لفظ العموم على سبب خاص لم يسقط عمومه، وكيف ينكر هذا، وأكثر أحكام الشرع نزلت على أسباب كنزول آية الظهار في أوس بن الصامت، وآية اللعان في هلال بن أُمية، وهكذا(7).
والجواب عنه أولاً: أنَّ البحث الأصولي المذكور لا يمسّ المهم من بحث أسباب النزول، لأن البحث الأصولي يتوجه إلى شمول الأحكام المطروحة في الآيات لغير مواردها، وعدم شمولها، فالبحث يعود إلى أن الآية هل تدلّ على الحكم في غير موردها أيضاً كما تشمل موردها، أو لا تشمل إلا موردها دون غيره؟
ففي صورة الشمول لغير موردها أيضاً، يمكن الاستدلال بظاهرها الدال بالعموم على الحكم في غير المورد.
وأمّا بالنسبة إلى نفس المورد فلا بحث في شمول الآية له، فإنَّ شمول الآية له مقطوع به ومجزوم بإرادته بدلالة نصّ الآية، وهي قطعية لا ظنّية، حيث إن المورد لا يكون خارجاً عن الحكم قطعاً، لأن إخراجه يستلزم تخصيص المورد، وهو من أقبح أشكال التخصيص وفاسد بإجماع الأصوليين.
قال المقدسي في ذيل كلامه السابق، في حديث له عن الآيات النازلة للأحكام في الموارد الخاصة، ما نصّه: فاللفظ يتناولها (أي الموارد الخاصة) يقيناً، ويتناول غيرها ظنّاً، إذ لا يُسأل عن شيء فيُعدل عن بيانه إلى غيره... فنقل الراوي للسبب مفيدُ ليبيّن به تناول اللفظ له يقيناً، فيمتنع من تخصيصه(
.
وقال السيوطي: إذا عرف السّبب قصر التخصيص على ما عدا صورته، فإنَّ دخول صورة السبب قطعيّ وإخراجها بالاجتهاد ممنوع كما حكى الإجماع عليه القاضي أبو بكر في «التقريب» ولا التفات إلى من شذّ فجوّز ذلك(9).
إذن لا تسقط فائدة معرفة أسباب النزول من خلال البحث الأصولي المذكور، بل تتأكّد.
وثانياً: أنَّ الرجوع إلى أسباب النزول قد لا يرتبط ببحث العموم والخصوص في الحكم، وإنّما يتعلق بفهم معنى الآية وتشخيص حدود موردها وتحديد الحكم نفسه من حيث المفهوم العرفي، لا السعة والضيق في موضوعه كما أُشير إليه سابقاً، ولنذكر لذلك مثالاً:
قال اللّه تبارك وتعالى: (إنَّ الصفا والمروة من شعائر اللّه، فمن حجّ البيت أو اعتمر، فلا جناح عليه أن يطوّف بهما، ومن تطوّع خيراً فإنَّ اللّه شاكر عليم) سورة البقرة / الآية (158).
قال السيوطي: إن ظاهر لفظها لا يقتضي أنَّ السعي فرض، وقد ذهب بعضهم إلى عدم فرضيّته، تمسكاً بذلك(10).
ووجه ذلك أنَّ قوله تعالى: (لا جناح) يدلّ على نفي البأس والحرج فقط، ولا يدلّ على الإلزام والوجوب، فإنَّ رفع الجناح لا يستلزم الوجوب لكونه أعمّ منه، فكل مباح لا جناح فيه، والواجب - أيضاً - لا جناح فيه، لكنّ فيه إلزام زيادة على المباح، ومن الواضح أن العام لا يستلزم الخاص.
لكن هذا الاستدلال بظاهر الآية مردود، بأن ملاحظة سبب نزولها يكشف عن سر التعبير ب«لا جناح» فيها، وذلك: لأنَّ أهل الجاهلية كانوا يضعون صنمين على الصفا والمروة، ويتمسّحون بهما لذلك، ويعظّمونهما، وكان المسلمون بعد كسر الأصنام يتحرّجون من الاقتراب من مواضع تلك الأصنام توهّماً للحرمة، فنزلت الآية لتقول للمسلمين: إنَّ المواضع المذكورة هي من المشاعر التي على المسلمين أن يسعوا فيها فإنّها من واجبات الحجّ، وأمّا قوله تعالى: (لا جناح) فهو لدفع ذلك التحرّج المتوهِّم.
فهذا الجواب يبتنى على بيان سبب النزول كما أوضحنا ولا يمسّ البحث الأصولي المذكور بشيء.
وقد أورد السيوطي في «الإتقان» أمثلة أخُرى، مما يعتمد فهمُ الآيات فيها على أسباب النزول(11).
وثالثاً: أنَّ هذا البحث الأصولي إنما يجري في آيات الأحكام كما يظهر من عنوانهم له، دون غيرها، وسيأتي مزيد توضيح لهذا الجواب فيما يلي.
وقد أثار ابن تيميّة شبهةً حول أهمية أسباب النزول تعتمد على أساس هذا الاعتراض، ملخصها: أن نزول الآية في حق شخص - مثلاً - لا يدلّ على اختصاص ذلك الشخص بالحكم المذكور في الآية، يقول: قد يجيء - كثيراً في هذا الباب - قولهم: «هذه الآية نزلت في كذا» لا سيّما إذا كان المذكور شخصاً كقولهم: إنَّ آية الظهار نزلت في امرأة ثابت بن القيس، وأنَّ آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله.
قال: فالذين قالوا ذلك، لم يقصدوا أنَّ حكم الآية يختص بأُولئك الأعيان دون غيرهم، فإنَّ هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس - وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يختص بسببه؟ - فلم يقل أحد: إنَّ عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعيّن، وإنما غاية ما يقال إنها تختص بنوع ذلك الشخص، فتعمّ ما يشبهه.
والآية التي لها سبب معيّن، إن كانت أمراً أو نهياً، فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت خبراً بمدح أو ذمّ، فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته(12).
والجواب عن هذه الشبهة:
أولاً: أن ما ذكره من «لزوم تعميم الحكم، وعدم قابلية الآية للتخصيص بشخص معين» إنما يبتنى على فرضين:
1 - أن يكون الحكم الوارد في الآية شرعياً فقهياً.
2 - أن يكون لفظ الموضوع فيها عامّاً.
وهذان الأمران متوفّران في الأمثلة التي أوردها، كما هو واضح.
أمّا إذا كانت الآية تدل على حكم غير الأحكام الشرعيّة التكليفيّة أو الوضعيّة، أو كان الموضوع فيها بلفظ خاصّ لا عموم فيه، فإنَّ ما ذكره من لزوم التعميم وامتناع التخصيص، باطل.
توضيح ذلك: أنَّ البحث عن أسباب النزول ليس خاصّاً بآيات الأحكام - وهي الآيات الخمسمائة المعروفة - بل يعم كل الآيات بما فيها آيات العقائد والقصص والأخلاق وغيرها، ومن الواضح أن من غير المعقول الالتزام بعموم الأحكام الواردة فيها كلها.
مثلاً - قصّة موسى وفرعون وبني إسرائيل، بما لها من الخصوصيّات المتكررة في القرآن، لا معنى للاشتراك فيها، فهي قضيّة في واقعة إنّما ذكرت للاعتبار بها، ويستفاد منها من مجالاتها الخاصة.
وكذلك إذا كان الموضوع خاصّاً لا عموم فيه، فإنَّ القول باشتراك حكم الآية بينه وبين من يشبهه، شططُ من القول. قال السيوطي في آية نزلت في معيّن ولا عموم للفظها: إنما تقصر عليه قطعاً - وذكر مثالاً لذلك، ثم قال -: وهم من ظن أن الآية عامة في كل من عمل عمله، إجراءً له على القاعدة، وهذا غلط، فإنَّ هذه الآية ليس فيها صيغة عموم(13).
وقوله تعالى: (إنَّ شانئك هو الأبتر) سورة الكوثر (108) الآية (3) فإنّها نزلت في العاص الذي كان يعيّر النبي (ص)، بعدم النسل والذريِّة، فعبّرت عن ذمّه وحكمت عليه بأنه هو الأبتر، وباعتبار كون الموضوع «شانئ النبي (ص)» فهو خاص معيّن، وهذا يُعرف من خلال المراجعة إلى سبب النزول، فهل القول باختصاص الحكم في الآية بذلك الشخص فيه مخالفة للكتاب أو السّنة، حتى لا يقول به مسلم أو عاقل! كما يدّعيه ابن تيميّة.
لكنه خلط بين هذه الموارد، وبين ما مثّل به من موارد الحكم الشرعي بلفظ عامّ، فاستشهد بتلك على هذه، وهذا من المغالطة الواضحة.
ونجيب عن الشبهة ثانياً: بأن الآية لو كانت تدل على حكم شرعي، وكان لفظ الموضوع فيها عامّاً إلا أنّا عرفنا من سبب النزول كون موردها شخصاً معيّناً باعتباره الوحيد الذي انطبق عليه الموضوع العامّ، أو كان الظرف غير قابل للتكرار، فإنَّ من الواضح أن حكم الآية يكون مختصّاً بذلك الشخص وفي ذلك الظرف، ولا يمكن القول باشتراك غيره معه.
مثال ذلك، قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر...) سورة المجادلة (58) الآية (12).
فإن المكلف في الآية عام، وهم كل المؤمنين، والحكم فيها شرعي وهو وجوب التصدّق عند مناجاة النبي (ص)، لكن هذا لا يمنع من اختصاص الآية بشخص واحد، فعند المراجعة إلى أسباب النزول نجد أن الإمام عليّاً (ع) كان هو العامل الوحيد بهذه الآية، حيث كان الوحيد الذي تصدّق وناجى الرسول (ص)، ونسخت الآية قبل أن يعمل بها غيره من المسلمين.
فهل يصحّ القول بأنَّ الآية عامّة، وما معنى الاشتراك في الحكم لو كانت الآية منسوخة؟ وهل في الالتزام باختصاص الآية مخالفة للكتاب والسنّة؟
وإذا سأل سائل عن الحكمة في تعميم الموضوع في الآية، مع أنَّ الفرد العامل منحصر؟
فمن الجائز أن تكون الحكمة في ذلك بيان أنَّ بلوغ الإمام (ع) إلى هذه المقامات الشريفة كان بمحض اختياره وإرادته، من دون أن يكون هناك جبرُ يستدعيه أو أمر خاصّ به. وإنّما كان الأمر والحكم عامّاً، لكنه أقدم على الإطاعة رغبة فيها وحبّاً للرسول ومناجاته، وأحجم غيره عنها، مع أنَّ المجال كان مفسوحاً للجميع قبل أن تنسخ الآية، فبالرغم من ذلك لم يعمل بها غيره.
ولا يمكن أن يفسّر إقدامه وتقاعسهم إلا على أساس فضيلته عليهم في العلم والعمل، وتأخرهم عنه في الرتبة والكمال.
وبمثل هذه الحكمة يمكننا أن نوجّه افتخار الإمام (ع) بكونه العامل الوحيد بهذه الآية.
فقد روى الحبري في تفسيره(14) بسنده، قال: قال عليّ: أية من القرآن لم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، نزلت آية النجوى {الآية(12) من سورة المجادلة (58)} فكان عندي دينار فبعتُه بعشرة دراهم، فكنتُ إذا أردتُ أن أناجي النبي(ص) تصدّقتُ بدرهم حتى فنيتْ ثم نسختها الآية التي بعدها: (فإن لم تجدوا فإنَّ الله غفور رحيم)(15).
ولا بدّ من الوقوف عند اعتراض ابن تيميّة على أهميّة اسباب النزول، لِنُذكّر بأنه إنما أثار مثل هذه الشبهة محاولة منه لتقويض ما استدلَّ به معارضوه، حيث استدلّوا بنزول الآيات في اهل البيت(ع)، بدلالاتها الواضحة على فضلهم وأحقيّتهم لمقام الولاية على الأمة، والخلافة عن الرسول(ص) في قيادة المسلمين.
وحيث لم يكن لابن تيميّة طريق للتشكيك في أسانيد لروايات الدالة على نزولها في فضل أهل البيت عليهم السلام ولا سبيل للنقاش في دلالتها على المطلوب، عمد إلى إثارة مثل هذه الشبهة بإنكار أهميّة أسباب النزول عموماً، والتشكيك في إمكان الاستفادة منها في خصوص الآيات النازلة بحقهم(ع).
yoyo